"لماذا لا نجد تشريعًا في المسيحيَّة بخصوص الممارسة ’ س‘؟" هذا السؤال كثيرًا ما نسمعه ونقرأه مع اختلاف "س"، فتارة تكون صلاةً مُعيَّنة قبل الأكل أو بعده، أو دعاءً معين عند السفر أو ركوب المواصلات، وتارة أخرى تكون بخصوص ممارسة العلاقة الجنسيَّة بين الزوجين، وهكذا.

  وفي هذه المقالة سنجيب عن "س" بعينها، وهي "الطهارة أو الوضوء". لماذا لا نجد في المسيحيَّة تشريعًا بخصوص الوضوء أو الطهارة؟

  وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن ننتبه في البداية إلى الفرق بين الإيمان المسيحي وبقيَّة الديانات أو العقائد الأخرى. فربَّما سائل هذا السؤال ينتمي إلى ديانة يمكن أن ندرجها تحت فئة الديانات التي تنتمي إلى مجموعة Ortho-Practice (وهي العقائد التي تهتم بالممارسة كبداية للعلاقة مع الله)، بينما الإيمان المسيحي عكس ذلك، فالإيمان المسيحي هو إيمان Ortho-Dox (أي يبدأ من الإيمان أو العقيدة السليمة، وينتهي بالممارسة).

ولمعرفة لماذا لا توجد "ممارسة" الاغتسال والطهارة كفرضٍ في المسيحيَّة، يجب أن نبدأ من "العقيدة" المسيحيَّة عن الطهارة. وخير بداية هو النص الكتابي. لذلك فلنفحص النص في (مرقس 7: 1-23).

في النص المُشار إليه سأل الفريسيُّون نفس السؤال الخاص بممارسة غسل الأيدي قبل تناول الطعام:

"سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ: «لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ، بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟»" (مرقس 7: 5).

وهذا السؤال لم يكن يرتبط بالنظافة ورغبتهم في التأكيد على مبادئ الصحَّة العامَّة،[1] بل كان هدفهم تطبيق ما وضعه المعلِّمون اليهود بخصوص التطهير الخارجي عند عودتهم من السوق، خوفًا من أن يكونوا مسُّوا أي شيء نجس. فالممارسة هنا أو السؤال لم يكن عن النظافة، بل عن الاغتسال بهدف التطهير من النجاسة.

  وكانت طريقة غسل اليدين خير دليل على هذا. يشرح ماك آرثر طريقة غسل الأيدي التي كان يطلبها التقليد اليهودي بأنَّ شخصًا يصب الماء على يد شخص آخر بينما أصابعه مُتَّجهة إلى الأعلى لينزل الماء إلى المعصم ثم إلى الأرض، ثم يتم تغيير وضع الكف إلى الأسفل وتُعاد العمليَّة.[2] وفي شرحه لكلمة "بِاعْتِنَاءٍ" (πυγμη) في (مرقس 7: 3)، يقول متَّى المسكين إنَّ الكلمة هذه تعني الغسل من الكف حتى الكوع لأجل التطهير، كما في الريف المصري وبعض الديانات.[3]

وهذا التطهير أو الغسل لم يكن شريعة إلهيَّة نجدها في كتب التوراة، بل كان فقط –كما صرَّح السيد المسيح– تقليدًا وضعه شيوخهم (مرقس 7: 7). فشريعة الغسل للتطهير كانت فقط تخص الكهنة في أوقات معيَّنة، وهذا ما حاول المعلِّمين اليهود تعميمه ليس فقط على الكهنة، بل على كل الشعب، وليس في أوقات معيَّنة، بل في كل الأوقات.[4]

والآن، فلنأخذ دقيقة لنتذكَّر ما علاقة كل هذا بسؤالنا عن "س". لماذا لا يوجد تشريع بالوضوء أو الاغتسال في المسيحيَّة؟ السؤال هنا من معلِّمين اليهود هو نفس السؤال: لماذا، يا يسوع الناصري، تلاميذك لا يغسلون أيديهم للتطهير من أي نجاسة مُحتَمَل أن يكونوا فعلوها أو لمسوها؟

الإجابة عن هذا السؤال المتعلِّق بممارسة "غسل الأيدي للتطهير" كانت بتوجيه نظر المعلِّمين اليهود إلى لُب الإيمان المسيحي فيما يتعلَّق بالسلوك، وهو "القلب".

كانت هذه هي أوَّل كلمات الرب يسوع المسيح ردًّا على هذا السؤال:

"حَسَنًا تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ! كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا" (مرقس 7: 7).

وهذه الإجابة هي اقتباس من سفر (إشعياء 29: 13). وهنا يجب الانتباه إلى أنَّ الرب يسوع لم يُهمل كتب العهد القديم، لم ينسَخها أو يلغها. فقد اقتبس منها، وفي مواقف أخرى صرَّح بأنَّ البرص نجاسة –كما تُعلِّم الشريعة– وأَمَر بتطبيق وصايا الشريعة اليهوديَّة بخصوصها (لوقا 5: 13- 14).[5]

فبالرغم من وجود بعض الوصايا في شريعة العهد القديم التي كانت تُلزم الفرد بأن يقدِّم مظاهر خارجيَّة كالاغتسال للتطهير (كما شرحنا سابقًا أنَّه يتم في مواقف معيَّنة)، فإنَّ اليهودي المؤمن كان يعلم أنَّ هذه المظاهر هي مجرَّد شكل أو ظِل للتطهير الحقيقي الذي يفعله الله وحده في القلب. فها هو داود النبي والملك يخطئ، وفي توبته إلى الله يعترف فيقول:

"اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي ... طَهِّرْنِي بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ" (مزمور 51: 2، 7).

ويشرح بنجامين شو أنَّه من المستحيل أن يمُر يومٌ على يهودي دون أن يتنجَّس بشكل أو بآخر. وهذه النجاسة لم تكن هي الخطيَّة، بل صورة للخطيَّة التي استشرت في كل الكيان البشري. وكان الرجاء الحقيقي لا أن يتجنَّبوا النجاسة، بل أن يتحرَّروا منها، وهذا ما فعله المسيح بإتمامه لكل شرائع الناموس الخاصَّة بالتطهير.[6]

حتى الآن قد رأينا الآتي:

  1. الإيمان المسيحي ينطلق من العقيدة المستقيمة إلى الممارسة المستقيمة وليس العكس.
  2. ممارسة الوضوء أو الطهارة بالاغتسال هي ممارسة طالَب بها معلِّمو اليهود المسيح وتلاميذه، وهي لم تكن ممارسة مطلوبة في شريعة الله.
  3. كانت هناك ممارسات فعليَّة في شريعة العهد القديم تُشبه ما طالب به الفرِّيسيُّون المسيح (في بعض الحالات، وأحيانًا لبعض الأشخاص)، ولكن تلك الممارسات بالتطهير والاغتسال كانت إشارة إلى احتياج أكبر لتطهير القلب نفسه، وهذا ما لا تستطيع مياه العالم أن تفعله، ويفعله الرب يسوع وحده.

"لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ... لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ". (مرقس 7: 15، 21)

  هذا هو رد فاحص القلوب ومختبر الكُلى، هذه هي إجابة من يَعلم كل شيء ولا معلومة واحدة يجهلها، هذه كانت إجابة الرب يسوع عن سؤال "لماذا لا يتطهَّر تلاميذك عندما يتنجَّسوا؟" كانت الإجابة أنَّ المشكلة الحقيقيَّة التي تُنجِّس الإنسان هي ليست مشكلة خارجيَّة، بل مشكلة داخليَّة.

  فكِّر معي عزيزي القارئ لماذا تحتاج إلى "تطهير" خارجي لجسدك؟ هل لكي تقترب إلى الله مُعافَى تمامًا من أي نجاسة؟ إنجيل المسيح يخبرنا أنَّنا مهما حاولنا أن نُقدِّس أنفسنا فلن نستطيع. الله وحده هو من يستطيع أن يحوِّل نجاستنا عندما نأتي إليه بها إلى نقاوة.

  هل "تتطهَّر" لأنَّك تعتقد أنَّ هناك الكثير من الذنوب التي قد لصقت ببدنك؟ في الحقيقة، أكثر ذنوب تلتصق بك هي متجذِّرة في أعماقك، هي متأصِّلة في قلبك. وأي مياه تلك التي تستطيع الوصول إلى قلبك؟ فقط الرب يسوع هو من يستطيع أن يحرِّرك من ذنوبك لا اغتسالك.

أيَّد الرب يسوع في حديثه مع "نيقوديموس" (يوحنا 3) فكرة أنَّ التطهير الحقيقي يتم بماء، وأن مِن دون هذا التطهير بالماء لا يمكن أبدًا أن ننال الحياة الأبديَّة:

"إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ".

 لا بُدَّ يا نيقوديموس -حتى مع كونك مُعلِّم اليهود وملتزم بشريعة الله– أن تغتسل بالماء والروح! كان ذلك تحقيقًا للنبوَّة الواردة في (حزقيال 36: 25- 27)؛ الله سيرش ماءً من نوع خاص، ويجعل روحه في داخل شعبه.

  هذا الماء هو كلمة الله (أفسس5: 26؛ مزمور 1). فالكرازة بموت وقيامة المسيح من كلمة الله، تُطهِّرنا وتجعلنا مقبولين لدى الله، عندما يغيِّرنا الروح القدس فنقبلها بالإيمان (يعقوب 1: 18). والتطهير الحقيقي هو ذلك التطهير الذي صنعه الرب يسوع بدمه على الصليب. فالإنسان فاسد ومُدان ولا يستطيع أن يُطهِّر نفسه بكل مياه العالم، ولكنَّ الله، بالرب يسوع المسيح، صنع تطهيرًا بنفسه عن خطايانا. ونحن نحصل على هذا التطهير، لا بغسل أجسادنا، بل بالإيمان –التصديق والثقة– بأنَّ صلب المسيح وقيامته وحدهما يستطيعان أن يطهِّرا لا أجسادنا، بل قلوبنا.

  إجابة السؤال "لماذا لا تمارس الاغتسال قبل الوصول إلى الله؟" هي أنني لا أستطيع. مهما حاولت فلن أستطيع أن أتطهَّر بما يكفي لكي أكون مقبولًا لديه. وهذا هو أكثر الأخبار المُحزِنة إنْ كنت تحاول جاهدًا أن تصل إلى الله باعتمادك على برِّك ونقاوتك الشخصيَّة.

  وأمام هذا الخبر الكارثي، هناك خبر سار. إنجيل الرب يسوع المسيح، الذي يبشِّرك بشارةً مفرحة أنَّ ما لا تستطيع عمله، قد أتمّه الرب يسوع على الصليب، فهو وحده من غسَّلنا بدمه، غسلًا يتخطَّى البدن ليصل إلى أعماق النفس ويحرِّرها من عبء محاولة تنقية نفسها بنفسها. هذا التطهير متاح بالمجان، فقد دفع الرب يسوع المسيح ثمنه بدمه الكريم، كل ما عليك أن تُصدق وتقبل هذا العمل العظيم بالإيمان، له المجد من استطاع أن يفعل ما عجز عنه أقوى الأبطال.

"مِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ: الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ". (رؤيا يوحنا 1: 5)

 

[1] وفي ذلك يشرح القمص متَّى المسكين أن إجابة المسيح لا تعني رفض المسيحيَّة لغسل اليدين عند تناول الطعام، فالمسيحيَّة تؤيِّد وتشجِّع على النظافة الشخصيَّة واتِّباع مبادئ الصحَّة العامَّة (انظر متى المسكين، "الإنجيل بحسب القديس مرقس"، دار مجلَّة مرقس، 2013. ص 341).

[2] جون ماك آرثر، "تفسير الكتاب المُقدَّس"، الطبعة الثانية، دار منهل الحياة: لبنان، 2012. ص 1617.

[3] متَّى المسكين، "الإنجيل بحسب القديس مرقس"، مرجع سابق. ص342.

[4] D. A. Carson, Zondervan Study Bible, Zondervan, USA, 2011. Page 2024.

[6] بنجامين شو، "الطاهر والنجس"، خدمات ليجونير، تمت قراءة المقالة بتاريخ 20 أكتوبر 2022.

https://ar.ligonier.org/tabletalk/clean-and-unclean/