ربما تتميز وثائق العهد الجديد بدقتها عندما تتناول معلومات تاريخية وجغرافية. ولكن ماذا عن "التناقضات" المزعومة بين روايات البشائر عن القيامة؟ فمثلاً "تشارلز تمـﭙلتون" Charles Templeton الذي عمل سنوات طويلة في "خدمة بيلي جراهام الكرازية"Billy Graham Crusade ولكنه تخلى عن إيمانه خصص عدة صفحات من كتابه "وداعـًا لله" Farewell to Godلعرض أوجه الشبه والاختلاف بين الأناجيل الأربعة، واستخلص أن "قصة القيامة بأكملها تفتقر للمصداقية" (1996) 1 . وكذلك أحد الوعاظ المشهورين الذي بدأ يشك في الإيمان وهو "دان باركر" Dan Barkerوجد متعة شخصية في محاولة رصد التناقضات بين روايات القيامة الأربعة. وقد ملأ سبع صفحات من كتابه "فقدان الإيمان بالإيمان" Losing Faith in Faithبقائمة من "التناقضات" التي اعتقد أنه اكتشفها. وقال في النهاية: "أيها المسيحيون، إما أن تخبروني بما حدث بالضبط في أحد القيامة، وإما أن نترك أسطورة يسوع في مدفنها" (1992). 2

أليس غريبـًا أن "باركر" يطلب أن يعرف "ما حدث بالضبط" في يوم من التاريخ القديم منذ قرابة 2000 سنة؟ إنه مطلب يتناول بكل وضوح المشروعية التاريخية لقصة القيامة ويضعها على المحك، حيث إنه ما من يوم آخر في التاريخ القديم خضع لمثل هذا الفحص الدقيق. فالمؤرخون اليوم لا يمكنهم أن يحددوا "ما حدث بالضبط" يوم 4 يوليو 1776 يوم أعلنت الولايات المتحدة استقلالها ولا 12 أبريل 1861 يوم اندلاع الحرب الأهلية في أمريكا. ولكن المسيحيون مطالبون بتقديم تفاصيل "دقيقة" عن قيامة المسيح! إلا أنه لحسن الحظ أن كتبة الإنجيل وصفوا "ما حدث بالضبط" دون تناقض. ادرس الدليل التالي.

تآمُر على التناقض

"تآمُر Collusion: اتفاق سري بين طرفين أو أكثر بغرض القيام بفعل غير مشروع أو غش أو خداع" The American Heritage Dictionary of the English Language(2000) 3 . حتى وإن كنا لم نسمع بكلمة "تآمر" من قبل، معظمنا يمكنه أن يفهم الحالة التي تصفها. هب مثلاً أن خمسة لصوص لبسوا أقنعتهم وسرقوا أحد البنوك وأخفوا المال في كهف قريب. وذهب كل لص إلى بيته حتى انتهت الشرطة من البحث. ثم سمع اللص الأول صوت طرقات على باب بيته، وعندما فتح وجد شرطيـًا "يريد أن يسأله بضعة أسئلة". فسأله الضابط: "أين كنت ليلة 1 فبراير 2002 وماذا كنت تفعل؟" فيجيب اللص على الفور: "كنت في بيت "ﭼو سميث" أشاهد التلفاز مع أربعة أصدقاء آخرين". فيأخذ الضابط أسماء الأصدقاء الأربعة ويزور كلاً منهم في بيته. وكل منهم يروي القصة نفسها بالضبط. هل هي صحيحة؟ بالطبع لا! ولكن هل أتت القصص كلها متطابقة تمامـًا دون تناقضات ظاهرة؟ نعم.
ولنفحص هذا المبدأ في ضوء تناولنا لموضوع القيامة. إن كانت كل رواية من روايات القيامة تتطابقُ كليًا مع غيرها، فماذا تظن سيقال عن تلك الروايات؟ "لابد أنهم نسخوها من بعضهم البعض" والحقيقة أنه عندما تتطابق رواية متى ولوقا مع مرقس في جوانب معينة من حياة المسيح بخلاف القيامة، يزعم بعض النقاد اليوم أن متى ولوقا نقلا عن مرقس لأنه يـُعتقد أنه أقدم البشائر الثلاثة. ومن الأسئلة الشائعة أيضـًا في أعلى الأوساط "الأكاديمية" الكتابية ما إذا كان بطرس قد أخذ من يهوذا في 2 بطرس 2: 4- 17 (أو ما إذا كان يهوذا أخذ من بطرس) لما بين النصين من تشابه كبير.

إلا أن المدهش أن الكتاب المقدس لم يترك المجال لاحتمال حدوث أي تآمر بخصوص روايات القيامة. ولا يمكننا طبعـًا أن ننكر (إنكارًا مشروعـًا) أن روايات القيامة وصلت إلينا من مصادر مستقلة بعضها عن بعض. وقد أنكر "تاد س. كليمنتس" Tad S. Clements بكل ضراوة في كتابه "العلم مقابل الدين" Science vs. Religionوجود أدلة كافية تبرر للمرء أن يؤمن إيمانـًا شخصيًا بالقيامة.إلا أنه اعترف بأنه "ليس هناك مجرد رواية واحدة لقيامة المسيح بل العديد من القصص وهو ما يجعل الأمر محرجـًا …" (1990( 4 . ورغم أنه رأى أن هذه القصص "تختلف بين بعضها البعض في جوانب جوهرية"، فقد أوضح أن الأناجيل روايات منفصلة لقصة واحدة. واعترف "دان باركر" بالشيء نفسه عندما صرح بجرأة قائلاً: "بما أن قصة عيد القيامة (بحسب تعبيره عن قصة القيامة) يرويها خمسة كـُتاب مختلفون، فهذا يفسح مجالاً كبيرًالتأكيد الرواية أو التشكيك فيها" (1992). 5 إن الباب الذي أغلقته للأبد روايات القيامة الواردة في الأناجيل هو باب التآمر وهو ما يعترف به المؤمنون بالقيامة وغير المؤمنين بها.

التعامل مع "التناقضات"

لا يمكن في هذه الفقرات القليلة تناول كل الاختلافات المزعومة بين روايات القيامة. ولكني أود أن أعرض بعض المبادئ المفيدة التي يمكن أن تبين عدم وجود تناقض حقيقي بين روايات القيامة المسجلة في الأناجيل.

الإضافة لا تعني التناقض

تخيل أن رجلاً يروي قصة ذهابه مع زوجته إلى المركز التجاري. والرجل يذكر كل المحال الجميلة التي تبيع أدوات الصيد ولفائف القرفة. والزوجة تحكي عن الرحلة نفسها، إلا أنها لا تذكر إلا متاجر بيع الملابس. هل من تناقض لمجرد أن الزوجة لم تذكر إلا محلات الملابس، والزوج لم يذكر سوى لفائف القرفة وأدوات الصيد؟ لا. كل ما في الأمر أنهما يضيفان على (أو يكملان) رواية بعضهما البعض لتكتمل القصة. وهو ما يتكرر كثيرًا في روايات القيامة.

ومن أمثلة ذلك أن إنجيل متى يشير إلى أن "مريم المجدلية ومريم الأخرى" زارتا القبر باكرًا في أول الأسبوع (متى 28: 1). أما مرقس فيذكر أن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة هن من زُرن القبر (مرقس 16: 1). بينما يذكر لوقا مريم المجدلية، ويونا، ومريم أم يعقوب "والباقيات" (لوقا 24: 10). ويوحنا لا يذكر إلا مريم المجدلية التي زارت قبر المسيح يوم الأحد باكرًا (يوحنا 20: 1). وقد أورد "دان باركر" هذه الأسماء المختلفة في ص 182 من كتابه باعتبارها تباينـًا أو تناقضًا. ولكن هل الاختلاف بين قوائم الأسماءهذه يجعلها تناقض بعضها البعض؟ لا. إنها تكمل بعضها البعض (وكل كاتب يضيف أسماء ليكمل القائمة)، ولكنها ليست متناقضة. فلو قال يوحنا "لم يأتِ أحد إلى القبر سوى مريم المجدلية"، أو لو قال متى إنه "لم تزر القبر إلا مريم المجدلية ومريم الأخرى" لكان هذا تناقضًا. ولكن ما قاله الرواة لا ينطوي على أي تناقض. ولمزيد من توضيح هذه النقطة، افترض أن في جيبك عشر أوراق نقدية فئة كل منها واحد دولار. ثم يأتي إليك أحدهم ويسألك: "هل معك دولار في جيبك؟" الطبيعي أن تَرُد بالإيجاب. وهب أن شخصـًا آخر يسألك: "ألديك خمسة دولارات في جيبك؟" وترد بالإيجاب أيضـًا. وأخيرًا، يسألك شخص آخر: "ألديك عشرة دولارات في جيبك؟" فتقول نعم للمرة الثالثة. هل قلت الحقيقة في كل مرة؟ نعم. هل ما صرحت به في المرات الثلاث عن محتويات جيبك مختلفـًا؟ نعم. ولكن هل كانت إجاباتك متناقضة؟ لا. كيف؟ الحقيقة أن: التكميل لا يعني التناقض.

ومن الملائم في تناولنا لفكرة التكميل أن نناقش الملاكين، والرجلين، والشاب الوارد ذكرهم في روايات القيامة، إذ تظهر "مشكلتان" مختلفتان بخصوص دخول "الرسولين المقدسين" إلى قبر المسيح الفارغ. أولاهما، كم عددهم بالضبط؟ وثانيتهما، هل كانوا ملائكة أم رجالاً؟ وبما أن السؤال الأول يتعلق بفكرة التكميل، فسأبدأ به. تقول رواية متى "ملاك الرب نزل من السماء" وتقول أيضـًا "وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج". (28: 2- 5). أما رواية مرقس فترسم صورة مختلفة قليلاً نرى فيها "شابًا جالسًا عن اليمين لابسًا حلة بيضاء" (16: 5). ولكن لوقا يقول "رجلان وقفا بهن (بالنساء) بثياب براقة". (24: 4). وأخيرًا يذكر يوحنا "ملاكين بثياب بيض جالسَين واحدًا عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعًا". (20: 12). فهل أي من هذه الروايات متناقضة من حيث عدد الرجال أو الملائكة الذين كانوا عند القبر؟ إن أخذنا في اعتبارنا قاعدة التكميل، فلابد أن نجيب بالنفي. فبالرغم من اختلاف الروايات، فهي ليست متناقضة من حيث عدد الرسل. فمرقس لا يقول "شاب واحد"، ولوقا لا يقول "ملاكان بالعدد". فهل كان هناك رسول واحد عند القبر؟ نعم. وهل كان هناك اثنان؟ نعم. مرة أخرى أكرر أن التكميل لا يعني التناقض.

هل كانوا رجالاً أم ملائكة؟

السؤال الثاني المتعلق بالرسل هو هويتهم: هل كانوا ملائكة أم رجالاً؟ معظم الملمين بالعهد القديم لا يجدون صعوبة في إجابة هذا السؤال. فالأصحاح الثامن عشر والأصحاح التاسع عشر من سفرالتكوين يتحدثان عن ثلاثة "رجال" أتوا لزيارة إبراهيم وسارة. وقد بقي هؤلاء الرجال فترة قصيرة، ثم مضى اثنان منهم لزيارة مدينة سدوم. والكتاب المقدس يخبرنا في تكوين 19: 1 أن هذين "الرجلين" كانا في الحقيقة ملاكين. ولكن عندما جاء رجال سدوم ليؤذوا هذين الملاكين، سألوا: "أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟"(تكوين 19: 5). ويشار إلى الرسولين في الأصحاحين باعتبارهما رجلين وملاكين بنفس الدرجة من الدقة. فقد كان مظهرهما وطريقة كلامهماوسيرهما وصوتهما كالرجال. فهل يمكن أن يشار إليهما (بشكل مشروع) على أنهما رجلان؟ نعم. ولكن هل كانا في الحقيقة ملاكين؟ نعم.
وللتوضيح أقول هب أنك رأيت رجلاً يجلس على مقعد في حديقة وقد خلع حذاءه الأيمن. ثم رأيته يسحب إريال من مقدَّم الحذاء ولوحة أرقام من الكعب. وبدأ يطلب رقمـًا ويتحدث إلى شخص على "تليفونه الحذائي". فإن أردت أن تكتب ما رأيت، هل من الدقة أن تقول إن الرجل طلب رقمـًا على حذائه؟ نعم. وهل يمكنك أيضـًا أن تقول إنه طلب رقمـًا على تليفونه؟ بالتأكيد. فالحذاء كان له كعب، ونعل، ومقدَّم، وكل أجزاء الحذاء الطبيعية، ولكنه في الواقع كان أكثر من مجرد حذاء. وعلى القياس نفسه، يمكن الإشارة إلى الرسولين اللذين وقفا عند القبر بأنهما رجلان، وهو ما يعد وصفـًا دقيقـًا. فقد كان لديهما رأس موضوعة على كتفين ومثبتة برقبة وكان لديهما جسم له ذراعان وساقان … إلخ. ولذلك، كانا رجلين. ولكنهما في الحقيقة أكثر من مجرد رجلين لأنهما كانا ملاكين، رسولين سماويين مرسلين من عرش الله لتوصيل إعلان لأشخاص معينين. وإن أخذنا في الاعتبار أن العهد القديم غالبـًا ما يستخدم مصطلح "رجال" للإشارة إلى الملائكة الذين يتخذون هيئة بشرية، يسهل علينا أن نؤكد عدم وجود تناقض فيما يتعلق بهوية الرسولين.

المنظور يلعب دورًا

ما نراه في روايات القيامة المستقلة عن بعضها ليس تناقضـًا، ولكنه مجرد اختلاف في المنظور. فمثلاً تخيل أن رجلاً لديه بطاقة من الورق المقوى مقاس 10×15 أحد وجهيها أحمر اللون والوجه الآخر أبيض. هب أيضـًا أنه وقف أمام جماعة كبيرة وطلب من جميع الرجال أن يغمضوا عيونهم وعرض على النساء الجانب الأحمر من البطاقة، وطلب منهن أن يكتبن ما رأينه. ثم تخيل أنه طلب من كل النساء أن يغمضن عيونهن وعرض على الرجال الجانب الأبيض من البطاقة وطلب منهم أن يكتبوا ما رأوا. لقد رأت مجموعة بطاقة حمراء ورأت الأخرى بطاقة بيضاء. وبمقارنة إجاباتهم يظهر في البداية أنها متناقضة، ولكنها ليست كذلك. فالتوصيف يبدو متناقضـًا  بسبب اختلاف منظور المجموعتين لأن كلاً منهما رأى جانبـًا مختلفـًا من البطاقة نفسها. وظاهرة المنظور تلعب دورًا كبيرًا في الحياة اليومية. وعلى القياس نفسه، يستحيل أن تتطابق رؤية شاهدين لحادث سيارة واحد، وهكذا فإن من شهدوا يسوع القائم من الأموات لم يروا الأحداث من نفس الزاوية.
يتضح أني لم أتناول كل الاختلافات المزعومة في روايات القيامة. إلا أنني ذكرت بعضًا من أهم هذه الاختلافات التي يمكن تفسيرها بسهولة باستخدام قاعدة التكميل أو قاعدة اختلاف وجهات النظر. وإن إجراء دراسة أمينة لبقية "المشكلات" يكشف عدم وجود تناقض واحد حقيقي بين الروايات، فهي قد تختلف في بعض أوجهها، ولكنها ليست متناقضة. فضلاً عن ذلك، أيًا كانت الاختلافات، فهي تثبت عدم وجود تآمر وتؤكد التنوع المتوقع في رواية أشخاص مختلفين يشهدون الحدث نفسه.

المراجع
  • 1Templeton, Charles (1996), Farewell to God (Ontario Canada: McClelland and Stewart) 122. - See more at
  • 2Barker, Dan (1992), Losing Faith in Faith (Madison, WI: Freedom From Religion Foundation) 181.
  • 3American Heritage Dictionary of the English Language (2000), (Boston, MA: Houghton Mifflin), fourth edition363.
  • 4Clements, Tad S. (1990), Science vs. Religion (Buffalo, NY: Prometheus)193 -
  • 5Barker, Dan (1992), Losing Faith in Faith (Madison, WI: Freedom From Religion Foundation) 179  

لمتابعة السلسلة من هذا المقال (الأول، الثاني، الرابع)